الخميس، 13 سبتمبر 2012

التنوع والاختلاف من طبيعة المجتمع







التنوع والاختلاف من طبيعة المجتمع


 لا يخلو مجتمع من المجتمعات، أو بلد من البلدان من أحزاب وأعراق، وطوائف ومذاهب وأديان. ولا شك في أنه ليس من مصلحة هؤلاء جميعاً أن يجعلوا الصراع فيما بينهم هو أساس العلاقة ضمن البلد الواحد، إنما تتوقف مصلحتهم على مدى التعاون القائم بينهم، والتوحد في الخطوط العامة التي تجمعهم وإن اختلفوا أدياناً وطوائف وأعراقاً و أحزاباً. القرآن الكريم يرسم لنا الملامح الأساسية لهذا المشروع العملاق من خلال آياته التي تناولت العلاقة بين المسلمين بعضهم مع بعض، وبين المسلمين ومواطنيهم من أهل الأديان الأخرى. والرسول العظيم صل الله عليه وسلم ينفذ هذا المشروع ويطبقه عملياً في دولة المدينة المنورة التي ضمت طوائف متعددة الأديان والأعراق: فيلتقي المسلمون مع بعضهم على أساس العقيدة والدين، ومع غيرهم على أساس آخر هو المصلحة الوطنية، دون أن تتداخل الخطوط أو تختلط الأوراق ويلتبس الحق بالباطل.  أول ميثاق للوحدة الوطنية في الإسلام ويضع الرسول صل الله عليه وسلم بنفسه أول ميثاق للوحدة الوطنية بين الطوائف الثلاث (المسلمين واليهود والمشركين) التي كانت تسكن المدينة -أساسه المصلحة الوطنية المشتركة، والدفاع عن الوطن الواحد المشترك (المدينة المنورة). ولم يحارب الرسول صل الله عليه وسلم اليهود لأنهم خالفوه في العقيدة أو الدين، وإنما لخيانتهم العهد، وإخلالهم الفاضح بهذا الميثاق الذي كتب في وثيقة وقع عليها الجميع وتعهدوا بالالتزام بما جاء فيها وتحمل نتائج مخالفتها. وهذا يسمى في المصطلح السياسي الحديث بالخيانة العظمى. وإذا كانت المصلحة الوطنية المشتركة هي أساس الوحدة الاجتماعية بين أصحاب الأديان المختلفة في دولة الإسلام – فإن العقيدة الإسلامية الواحدة هي أساس الوحدة بين أهل الإسلام.
  التعاون والإحسان أساس العلاقة الاجتماعية وإلى من تصور أن العلاقة في دولة الإسلام بين المسلمين ومواطنيهم أساسها العداء والبراء، وأنها علاقة عدم أو وجود، والأصل فيها الحرب والقطيعة والعدوان لا السلم والتعاون والإحسان نسوق هذه الآيات القرآنية: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ  [الممتحنة:9].
 لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ البقرة:272].
 وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الانسان:8].
 الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5].
  وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:8].  وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2]. لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْـغَـي [البقرة:256].
 وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [العنكبوت:46] .
 وغير ذلك من الآيات كثير. ولذلك فإن القاعدة الفقهية الخاصة بمعاملة أهل الذمة في دار الإسلام هي: إن لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين إلا في أمور محددة مستثناة، كما أن عليهم ما على المسلمين من واجبات إلا ما استثني. وعلى هذا الأساس نقول: إن على كل مواطن شرعاً واجب التعاون مع إخوانه المواطنين في المجتمع في سبيل تحقيق المصلحة الوطنية المشتركة والدفاع عن الوطن الواحد بغض النظر عن الدين أو الطائفة أو العرق، وفي موقف نبي الله يوسف عليه السلام من شعب مصر شاهد وعبرة لقد بين نبي الله يوسف عليه السلام موقفه من عقيدة المجتمع وقال لصاحبي السجن: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ... أنظر الحوار في (سورة يوسف). وفي الوقت نفسه وقف مع المجتمع في محنته وقدم مشروعاً متكاملاً لإنقاذه]. الدعوة والحوار يقوم على الوضوح والصراحة أما وسيلة البلاغ والدعوة إلى الحق، والتغيير الفكري، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتكون بفتح باب الحوار البنَّاء وممارسته بين أبناء الأديان والطوائف والاتجاهات المختلفة. وهذا يستلزم الوضوح التام، وعدم خلط الأوراق والمجاملة على حساب الحق لأن ذلك يفقدنا دورنا الحضاري في كوننا أصحاب رسالة. نعم قد يلجأ البعض إلى ذلك لاعتقاده بأن الاختلاف في الفكر يستلزم التشرذم الاجتماعي أو التفرق والتناحر الطائفي ويحرِّم أو يمنع التعاون والالتقاء على المصلحة المشتركة، وهذا الاعتقاد لا يصح شرعاً ولا عقلاً، فلا خوف إذن من الصراحة والوضوح التام، فإن حصل الاتفاق الفكري أو العقيدي صار في عنق المتفقين حقان: حق المواطنة وحق الدين، وإلا فإن الاختلاف في الدين لا يستلزم سقوط الحق الآخر. ولنا في رسول الله صل الله عليه وسلم أسوة حسنة: إذ لم يجعل من ذلك الاختلاف سبباً للتفرق وعدم التعاون بين المختلفين في أصل الدين (المسلمين واليهود والمشركين). وفي الوقت نفسه لم يجامل صل الله عليه وسلم على حساب الحق ولم يخلط الأوراق بل صرح بوضوح تام أن الحق مع الإسلام وجعل أساس التغيير الحوار بالحكمة والموعظة الحسنة لأنه صاحب رسالة وذلك يتطلب الوضوح وفرز الأوراق حتى لا تتداخل الخنادق وتضيع الحقيقة ويتوقف الدور الحضاري.
 إذا كان الاختلاف يستند إلى نية حسنة وإرادة صادقة في طلب الحق والتمسك به فالحل سهل وقريب- إن شاء الله- ما دام بين أيدينا هذا الكتاب المبين الذي أنزله الله حكماً بين المختلفين كما قال سبحانه:
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّه  [الشورى:10].
 وإذا قيل: إن الكل يدعي مرجعية الكتاب فأين الخلل؟ فينا أم في الكتاب؟ لا شك أن الكتاب محكم لا خلل فيه. ولكن قطعاً للعذر نسأل: هل كلام الله صعب مستصعب لا يحتمله إلا الخواص من العلماء، وقد اختلف هؤلاء فاختلف تبعاً لهم أتباعهم ومقلدوهم؟ ذلك أن معرفة أساسيات الدين وأصوله لا تحتاج إلى اجتهاد، لوجودها صراحة في نصوص القرآن الكريم. والقرآن سهل ميسر كما قال سبحانه:

 وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر   [القمر:2].

 وبما أن نصوص أصوله وأساسياته صريحة وواضحة للجميع فلا تقليد ولا اجتهاد. إذن فينا نحن الخلل!! فأين موضع الخلل منا؟ أفي القلوب التي رانت عليها الأهواء والشهوات؟ أم في العقول التي غزتها الأوهام والشبهات؟ لا شك أن أهل الأهواء هم أصل الداء وأُس البلاء وأنه ليس لدائهم من دواء إلا ما شاء الله فلا شأن لنا مع هؤلاء.

 إنما نوجه كلامنا إلى مريدي الحق ممن إذا رأوه لم يؤثروا عليه سواه ولكن خفي عليهم لطروء شبهة، أو افتقاد بينة، فإلى هؤلاء وحدهم نوجه كلامنا،  فنقول:

 إن كتاب الله هو مصدر الهداية وأساس المعرفة، منه البداية، وإليه الموئل والنهاية. لكن له مفتاح غفلنا عنه، فأفرحنا علماء السوء الذين نصبوا أنفسهم بديلاً عن القرآن قطاعَ طريق يصدون الناس عن سبيله.

 في كتاب الله نجد هذا المفتاح الرباني العجيب! الذي إذا أمسكنا به انفتحت لنا مغاليق ذلك الكتاب، واهتدينا بيسر إلى الصواب، وميزنا بوضوح بين أهل الحق وأهل الباطل لأننا عرفنا -قبل ذلك- ما هو الحق؟ وما هو الباطل؟

 الحق يقين والباطل ظن

 الحق يقين.

 والباطل ظن..

وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [النجم:28].

فهما- أبداً – ضدان.. لا يجتمعان.

 وأهل الحق راسخون ليقينهم، وأهل الباطل تائهون زائغون لعدم استقرار الحق في ظنونهم.
 والتمييز بين الفريقين ضرورة، والبحث في هذا الموضوع -إذا كان علمياً نزيهاً- واجب لأنه سبيلنا إلى زوال الفرقة والاختلاف وإحلال الوحدة والائتلاف.  ولا ريب في أن هذا من أعظم مقاصد الدين، والسعي في سبيل تحقيقه واجب على كل المسلمين. العلامة الفارقة بين أهل الحق وأهل الباطل، إن أهل الحق يتبعون الآيات المحكمات أي النصوص القرآنية الصريحة الخالية من الإشكال والاحتمال وذلك يقين لا شبهة فيه. وإن أهل الباطل يتبعون المتشابهات التي تحتمل وجوهاً متعددة وذلك ظن لا يقين فيه، كما قال هو سبحانه:

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيل  [آل عمران:7].
 هذه هي العلامة الفارقة الواضحة. وهذا هو المفتاح الرباني العجيب. فمن وجدنا أصوله قائمة على الآيات المحكمات الواضحات، حكمنا برسوخه وإيمانه، ومن وجدنا أصوله مبنية على المتشابهات المحتملات حكمنا بزيغه وبطلانه.   عسى ربنا جل وعلا أن يجمعنا على الحق وينجينا من شر الخلق.
رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ .